«حَقِيقَةُ التَّصَوُّفِ»
تَدْوِينُ
أَبِي
عَبْدِ الرَّحْمَنِ؛ عَمْرِو بْنِ هَيْمَانَ المِصْرِيِّ
══════════════¤❁✿❁¤══════════════
* الصُّوفِيَّةُ لفظٌ حَادِثٌ أُطْلِقَ
علَى جماعةٍ منَ المسلمينَ، التزموا الزهدَ في أول أمرهم؛ ثم تعددت أفكارهم،
وتنوعت أوصافهم.
فمنهم: غُلَاةٌ قُبُورِيَّةٌ: يعبدونَ القُبورَ وأصحابَها.
ومنهم: مُشْرِكُونَ: يدعونَ غيرَ اللهِ، ويذبحونَ
لغيرهِ.
ومنهم: الأشعريُّ، والماتريديُّ، والمرجيءُ، والخارجيُّ.
ومنهم: الصَّالحونَ والصادقونَ والزَّاهدونَ.
ومنهم: العالمونَ والجاهلونَ.
* ولذا التصوُّفُ ظهر في القُرُون الأُوَلِ
على أنَّهُ الزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة بالتعبُّد بالعبادات المشروعة، مقابلةً
للتَّرَفِ والبَذَخِ الذي أصابَ العربَ، في دُوَلِ الملوك فِي عَهْد الدولةِ الأُمَوِيَّةِ
والعبَّاسيَّةِ؛ فربُّما أُطْلِقَ على الزَّاهدِ: صُوفيٌّ، وليسَ بمطردٍ، ولا منعكسٍ.
* قَالَ ابن الجوزي: " وعلى هَذَا كان أوائل القوم – أي على الزهد والتعبد- فلبَّسَ
إبليس عليهم فِي أشياء ثم لبس عَلَى من بعدهم من تابعيهم؛ فكلما مضى قرن زاد طُعْمُه
فِي القرن الثاني؛ فزاد تلبيسه عليهم إِلَى أن تمكَّنَ من المتأخرين غاية التمكن.
وكان أصل تلبيسه عليهم: أنه صدهم عَن العلم، وأراهم أن المقصود العمل فلما أطفأ مصباح العلم
عندهم تخبطوا فِي الظلمات؛ فمنهم من أراده أن المقصود من ذلك ترك الدنيا فِي الجملة
فرفضوا مَا يصلح أبدانهم وشبهوا المال بالعقارب، ونسوا أنه خلق للمصالح وبالغوا فِي
الحمل عَلَى النفوس حتى أنه كان فيهم من لا يضطجع وهؤلاء كانت مقاصدهم حسنة غير أنهم
عَلَى غير الجادة وفيهم من كان لقلة علمه يعمل بما يقع إليه من الأحاديث الموضوعة وَهُوَ
لا يدري"
(1).
* لذا أخذ مصطلح (الصوفية) في التحيز إلى أفكار منحرفة، حتى تبلور فيه شر كثير في العصور
المتأخرة؛ لذا ننصح إخواننا الذي انتسبوا إليه بالإقبال على الكتاب والسنة وتفهم عقائد
السلف، والزهد، وترك هذا المسمى؛ لأنه أصبح علامة على البدع والضلال، ولم يعد علامة
على الزهد والورع والنقاء.
* فلو قال قائل؛ سننتسب للصوفية، وننتهج الزهد.
فنقول
لهم ما قاله ابن الجوزي: " التصوف مذهب معروف يَزِيد
عَلَى الزهد، ويدل عَلَى الفرق بينهما: أن الزهد لم يذمه أحد، وَقَدْ ذموا التصوف عَلَى
مَا سيأتي ذكره " ثمَّ ذكرَ ما يذُمُّهُمْ " (2).
* قلتُ: وليس كلُّ مَن انتُسبَ للتصوف وقعَ في العقائد
الضالة، لا سيما أنه انتسب إليه أئمة وحفاظ كبار؛ كابن الأعرابي، وأبي نعيم الأصبهاني،
وأبي سعد الماليني، والحكيم الترمذي، وأبي عبد الرحمن السلمي ، وغيرهم؛ فالتعبد بغير
علم يوقع في البدع والضلال، وعلى قدر العلم بالكتاب والسنة وتوفيق الله تكون الهداية
والعصمة المقيدة.
* وقد أُخِذتْ بعض المآخذ على الصوفية، لا
سيما الحكيم الترمذي والسلمي الذَيْنِ نُسِبَا للزندقة والباطنية، وذلك للإفراط في
استخدام الإشارات والرموز والطلاسم العجيبة التي لا يفهما إلا قائلها؛ فأوقعهم ذلك
في عظائم - نسأل الله السلامة.
* قال الذهبي معلقا على طرد الحكيم الترمذي
من بلده لتصنيفه بعض الكتب الرديئة: " كَذَا تُكُلِّمَ
فِي السُّلَمِيّ مِنْ أَجل تَأَلِيفه كِتَاب (حَقَائِق
التَّفْسِيْر) ، فَيَاليتَه لَمْ يُؤلفه، فَنَعُوذُ
بِاللهِ مِنَ الإِشَارَات الحَلاَّجيَّة، وَالشَّطَحَات البِسْطَامِيَّة، وَتَصَوُّف
الاَتحَادِيَّة، فَواحُزْنَاهُ عَلَى غُرْبَة الإِسْلاَم وَالسُّنَّة، قَالَ اللهُ
تَعَالَى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيْماً فَاتَّبعُوهُ
وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيْلِهِ} [الأَنعَام: 135]" (3).
* وقَالَ الإِمَامُ تَقِيُّ الدِّيْن ابْنُ
الصَّلاَح فِي (فتَاويه) : "وَجدتُ عَنِ الإِمَامِ أَبِي الحَسَنِ الوَاحِدِيّ المُفَسِّر
- رَحِمَهُ اللهُ - أَنَّهُ قَالَ: صَنَّفَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيّ
(حَقَائِق التَّفْسِيْر) ، فَإِنْ كَانَ اعتَقَدَ أَنَّ ذَلِكَ تَفْسِيْرٌ فَقَدْ كَفَرَ
".
قُلْتُ –أي الذهبي-: وَاغَوثَاهُ! وَاغُربتَاهُ!
(4)
* وأما حقيقة التصوف عند الأولين؛ فقد قال
الذهبي مبينا له: " فَإِنَّمَا التَّصَوُّف وَالتَأَلُّه
وَالسُّلوك وَالسَّيْر وَالمَحَبَّة مَا جَاءَ عَنْ أَصْحَابِ مُحَمَّد ﷺ مِنَ
الرِّضَا عَنِ اللهِ، وَلزوم تَقْوَى الله، وَالجِهَادِ فِي سَبِيْل الله، وَالتَأَدُّب
بآدَاب الشَّريعَة مِنَ التِّلاَوَة بترتيلٍ وَتدبُّرٍ، وَالقِيَامِ بخَشْيَةٍ وَخشوعٍ،
وَصَوْمِ وَقتٍ، وَإِفطَار وَقت، وَبَذْلَ المَعْرُوْف، وَكَثْرَة الإِيثَار، وَتَعْلِيم
العَوَام، وَالتَّوَاضع لِلْمُؤْمِنين، وَالتعزُّز عَلَى الكَافرين، وَمَعَ هَذَا فَالله
يَهْدِي مَنْ يَشَاء إِلَى صرَاطٍ مُسْتَقِيْمٍ.
وَالعَالِمُ إِذَا عَرِيَ مِنَ التَّصوف وَالتَألُّه، فَهُوَ فَارغ،
كَمَا أَنَّ الصُّوْفِيّ إِذَا عَرِيَ مِنْ عِلْمِ السُّنَّة، زَلَّ عَنْ سوَاءِ السَّبيل.
وَقَدْ كَانَ ابْنُ الأَعْرَابِيِّ مِنْ عُلَمَاء الصُّوْفِيَّة، فترَاهُ
لاَ يَقْبَلُ شَيْئاً مِنِ اصطلاَحَات القَوْم إِلاَّ بحُجَّةٍ "
(5).
* بل إن أبا عبد الرحمن السلميَّ نفسه يقرر
هذا؛ فقَالَ: " أَصْلُ التَّصَوُّفِ مُلاَزَمَةُ
الكِتَابِ وَالسُّنَّة، وَتَرْكُ الأَهْوَاءِ وَالبِدَع، وَتَعْظِيْمُ حُرُمَاتَ المَشَايِخ،
وَرؤيَةُ أَعذَار الخَلْق، وَالدَّوَامُ عَلَى الأَورَاد" (6).
* لكن التعمق في استخدام الألفاظ الموهمة،
والإيحاءات المشكلة، وقلة العلم، وضعف الفهم، وكثرة الأماني والخواطر الزائفة، تدخل
العبد في السوء؛ فنسأل الله اتباع السنة، والتزام السنة والجماعة.
* قال ابن الجوزي: " تأملتُ أحوال الصوفية والزهاد، فرأيت أكثرها منحرفًا عن الشريعة،
بين جهل بالشرع، وابتداع بالرأي، يستدلون بآيات لا يفهمون معناها، وبأحاديث لها أسباب،
وجمهورها لا يثبت.
فمن ذلك أنهم سمعوا في القرآن العزيز: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [ آل عمران: 185]، {أَنَّمَا
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ}
[الحديد: 20]، ثم سمعوا في الحديث: "للدنيا أهون على الله من شاة ميتة على أهلها"،
فبالغوا في هجرها من غير بحث عن حقيقتها! وذلك أنه ما لم يعرف حقيقة الشي، فلا يجوز
أن يمدح ولا أن يذم " (7).
* ومن أراد الزيادة في هذا الباب؛ فعليه بالباب
العاشر: فِي ذكر تلبيسه عَلَى الصوفية من جملة الزهاد من كتاب "تلبيس إبليس" للحافظ ابن الجوزي، وتكلم فيه على ظهور
الصوفية؛ فراجعه ففيه فوائد جمة (8).
* ومع هذا؛ فبعض الصوفية برئ من العقائد الفاسدة،
يحث نفسه على الخير، والالتزام بالسنة، والله أعلم بما في نفوس عباده؛ لكن
الانتساب إلى جماعة المسلمين ولزوم أمر السلف الصالح خير وأبقى وأرجى.
وكتبه
أبوعبدالرحمن
عمرو بن هيمان المصري.
صباح
الثلاثاء في 26 ربيع الأول 1440 هـ الموافق 4-12- 2018م
-------------
(1) تلبيس
إبليس (ص: 147).
(2) تلبيس
إبليس (ص: 149).
(3) سير
أعلام النبلاء ط الرسالة (13/ 442)
(4) فتاوى
ابن الصلاح (1/ 197)، سير أعلام النبلاء ط الرسالة (17/ 255)
(5) سير
أعلام النبلاء ط الرسالة (15/ 410)
(6) سير
أعلام النبلاء ط الرسالة (17/ 249)
(7) صيد
الخاطر (ص: 39)
(8) تلبيس
إبليس (ص: 145)
أسعد بإثبات حضوركم بجميل تعليقكم